جريدة إلكترونية متجددة على مدار الساعة : الدقة في الخبر

حنيـن لمكناس… مدينـة الفـرص الضائعـة

0

aba-sad9i-256x300

يوم الجمعة الماضي 06 ماي حضرت محاضـرة حول (تاريـخ التعميــر) ألقاها البـروفيسـور Gerard Beaudet أحد أشهـر أساتذة معهـد التعميـر بجامعة مونتـريال. استعرض المحطات المفصلية في تاريخ التعميـر، وتناول أهم التيارات الفكـرية والإتجاهات الفلسفية والنظريات العمرانية التي ارتكز عليها تخطيط وإنشاء المدن من أقـدم التجمعات البشرية إلى المدن الرقمية.
في معرض حديثه عن كبار رواد الفكـر العمراني والهندسة المعمارية، ذكر أن 05 أشخاص هـم الأكثر تأثيـراً في تطور المدينة الحديثة منذ الثورة الصناعية إلى اليوم.
أول هؤلاء Ebenezer Howard المخطط العمراني البريطاني الحالم مؤسس حركة المدن – الحدائقية (Cités-jardins/Garden Cities)، وخامسهم المهندس المعماري السويسري-الفرنسي الشهيـر Le Corbusier مؤسس الحركة الحديثة في الهندسة المعمارية (Mouvement moderne).

لعلكم تتساءلون ما علاقة المحاضرة بمكناس ؟
علاقة المحاضـرة بها قوية.. وأصل الحنين إليها في هذا المقام يمتد إلى عام 1952، تاريخ الإنتهاء من بناء عمارة شهيـرة بمدينة نيويورك، هي مقـر الأمـم المتحدة. قليل منا يعرف أن مبنى الأمم المتحدة من تصميم Le Corbusier أقرب المهندسين المعماريين العالميين إلى ذاكرتنا، وأبرزهم تأثيراً في اتجاهات الفن المعماري الحديث.
في خمسينيات القرن الماضي، أوج الحركة الحديثة للهندسة المعمارية، صمم هذا المهندس بنايات كثيرة من نفس طراز مبنى الأمم المتحدة في مدن مختلفة عبر العالم. نذكر منها “المدينة البهيجة بمارسيليا” جنوب فرنسا Cité radieuse de Marseille والتي سجلت على قائمة المباني التاريخية الفرنسية ويعتبرها المتخصصون في الفن المعماري وتاريخ المدينة الحديثة من التحف النفيسة لأنها من تصميم مهندس كبيـر أحدث ثورة معمارية غيرت وجه المدينة في العصر الحديث.

من نيويورك إلى مارسيليا… وصلنا إلى مكناس
هل تعلمون أن هذا المهندس الكبيـر الذي يُفتخـر بتراثه المعماري وآثاره الفنية في مدن كثيرة في العالم قد مر من مكناس ؟
وهل تعلمون أنه ترك بصمات واضحة في شوارع مكناس وساحاتها ؟
تلك البصمات استلهمها مهندسون لاحقون لتشكل جزءً من الهوية المعمارية لمكناس الحديثة. نراها اليوم في أكثر مباني خمسينيات القرن العشرين في قلب المدينة الحديثة – حمرية. من سـره أن يرى بقايا تلك البصمات، فلينظـر إلى القصـر البلدي بالساحـة الإدارية (حمرية) وليتأمـل صفوف الأعمـدة الباسقة المتناسقة التي تقف عليها البناية. وليتأمل منظـر النوافذ العمودية الطويلة التي تنيـر المكاتب وقاعات الاجتماعات في الطابق العلـوي.
لم يكتف Le Corbusier بالمرور من مكناس مرور الكرام.. بل ترك في الساحة الإدارية نفسها أيقونة معمارية رائعة [كانت] محملة على أعمدة على شكل أوتاد بنيت في وقت واحد مع مبنى الأمـم المتحدة والمدينة البهيجة في مارسيليا (1947-1952) !

في نفس الحقبة (01 يونيو 1955) فُـرض على محيـط مكناس القديمة ارتفاق الحماية الجمالية. [فكانت] عاصمة الجمال في الزمن الجميـل. [كان] اسم العمارة المكناسية Immeuble le Corbusier، ولأنها من تراث ذلك المهندس العالمي الفذ، فقد وضعت اسم مكناس ونيويورك ومارسيليا ومدن محظوظة أخرى في السجل الفني لمؤسس حركة الهندسة المعمارية الحديثة. [كانت] مكناس في مصاف المدن الحديثة التي [كان] من قدرها أن تحتضن تحفة معمارية من توقيع Le Corbusier أيام [كانت] مدرسة للتخطيط العمراني ومختبرا للهندسة المعمارية الحديثة.

مضى الزمن الجميل.. ولم يُكتب للإسم الكبيـر أن يعيش في ذاكـرة المدينة، ولا للتحفة المعمارية الفريدة أن تستمـر على أرضها.. فكان اﻹسم والمسمى أثرا بعد عين.
كيف للأشياء الجميلة أن تعيش في مدينتي، وفيها جرافات كالثيران الهائجة تجتث التاريخ من جذوره.. وفيها أيادي غليظة كالمطارق الفولاذية تهدم الذاكـرة على رؤوس حُماتها؟
مكناس القديمة والحديثة.. ذاكرة مثخنة بالهـدم والتدميـر.. مباني تاريخية كانت تحمل أسماء أعلام كبيرة.. ثم هوت صريعة الجهل التاريخي والفقـر الجمالي والخمـول المعرفي والسلطة العميـاء..

اليوم، موقع جريمة هـدم عمارة Le Corbusier بمكناس – لمن لا يعرفه – خلاء بئيس تحول صدفة إلى موقف عشوائي للسيارات.. جوار موقف عشوائي آخر لسيارات أجـرة مدينة أزرو. لكم أن تتخيلوا موقعاً لتحفة معمارية من أخوات مبنى الأمم المتحدة والمدينة البهيجة بمارسيليا، قـد تخدم صورة مكناس على الصعيد العالمـي (لو كانوا يعلمون)، كيف تحول إلى محطة عشوائية تعـج بالصياح والفوضى.

على أرض مكناس (فيرساي المغرب) كـم أيقونة هندسية نهشتها معاول تجار الأوهام السياسية ؟
كم من نفائس أثرية ومعمارية جرفتها مناورات علماء المضاربة العقارية ؟
على أرض العاصمة الإسماعيلية (باريس الصغرى)، كم من فرص تنموية أزهقتها ارتباطات سلطوية بمصالح اقتصادية نخبوية وتواطئات حزبية وتلاعبات أقسام إدارية وتقنية ؟

أسأل والحنين لمكناس يؤلمني..
يؤلمني كلما ذكرت أن تاريخ مكناس ينـزف تحت المعاول والجرافات..
يؤلمني كلما ذكرت أن ذاكـرة مكناس على شفا جرف هار..
يؤلمني كلما ذكرت أن معالم الجمال في مكناس تقف في طابور الموت.. منها سابق.. ومنها منتظر .. وما بدل مسؤوليها تبديـلا.
[كانت] مكناس.. و[كان] تاريخها..
فمتى ينتهي اقتران خبـر مكناس بفعـل ماض ناقـص؟

أبا صدقي: كندا

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

error: Content is protected !!